إن حسن الإنفاق وترشيد الاستهلاك والاقتصاد في المعيشة مما أمر الله تعالى به وسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو سبب لاستقامة الأحوال وتحقيق الأهداف، قال عز وجل: -(وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)- [الفرقان/67] أي ليسوا بالمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خيارا وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا.
وإن من الأمور التي تهدم اقتصاد الأفراد والجماعات، وتقود إلى الفقر والمجاعات، وتورث الخزي والهوان والندامات الإسراف والتبذير فهو بريد الكذب والنفاق، وسبب الهلاك والدمار والفناء في الدنيا، قال عز وجل: -(وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)- [طه/127].
فالإسراف من قبائح الذنوب والعادات، وهو شعار من لا يرجون لله وقارا، ولا يحترمون نِعَم الله عز وجل ولا يقدرونها حق قدرها، وهو من الصفات الجالبة لغضب الله ونقمته، ينافي كمال الإيمان ويقود إلى طاعة الشيطان ومعصية الرحمن، يمنع محبة الله عز وجل لما فيه من مشابهة الشيطان، في الإفساد وإضاعة المال الذي به قوام حياة الناس وحفظ معاشهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ».
وقال عز وجل: -(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً*إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)- [الإسراء/26-27] وقال عز وجل: -(يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)- [الأعراف/31].
وقال أنس ابن مالك رضي الله عنه: أتى رجل من بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي ذُو مَالٍ كَثِيرٍ وَذُو أَهْلٍ وَوَلَدٍ وَحَاضِرَةٍ فَأَخْبِرْنِي كَيْفَ أُنْفِقُ وَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِكَ فَإِنَّهَا طُهْرَةٌ تُطَهِّرُكَ وَتَصِلُ أَقْرِبَاءَكَ وَتَعْرِفُ حَقَّ السَّائِلِ وَالْجَارِ وَالْمِسْكِينِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْلِلْ لِي قَالَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا فَقَالَ حَسْبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إِلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ إِذَا أَدَّيْتَهَا إِلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا فَلَكَ أَجْرُهَا وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» روه أحمد والطبراني في الأوسط.
الإسراف والتبذير داء قتال ينبت أخلاقاً مرذولة تقود المجتمع إلى هوة الدمار والضياع قال عز وجل: -(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً)- [الإسراء/16].
وانظروا كم في الأمم الماضية المجاورة من بيوت كانت عامرة، وأسراً كانت غنية، فاستسلمت للشهوات وغلب عليها الإسراف والتبذير، ففسدت أحوالها وتلفت أموالها، وتقوضت تلك البيوت، وافتقرت تلك الأسر، فحل النكد واللؤم والندم والحسرة بها ولات ساعة مندم، وإذا وقع الغني في الفقر بعد الغنى تجرع مرارة الهوان وغص بحسرات الندم، وتجلى فيه قول الحق سبحانه: -(وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً)- [الإسراء/29].
والإسراف معصية عظيمة من معاصي الجاهلية الأولى التي أُمر المسلمون بالبعد عنها والحذر منها قال عز وجل: -(وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً*إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)- [الإسراء/26-27].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا من غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ».
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة".
والإسراف: هو مجاوزة الإنسان الحد في كل فعل يفعله وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وهو التبذير المنهي عنه ويغلط من يظن أن الإسراف إنما هو في المال فقط، بل الإسراف يتناول أمور الإنسان كلها فكل فعل يصدر من الإنسان متجاوزاً فيه الحد والوسط فهو مسرف.
قال عطاء ابن أبي رباح رحمه الله في معنى قوله سبحانه: -(وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)- [الأعراف/31] قال: "نهوا عن الإسراف في كل شيء".
وقال إياس ابن معاوية: "ما جاوزتَ به أمر الله فهو سرف".
وأعظم أنواع الإسراف خطرا وأشده إثما: الإسراف في الذنوب والعصيان وغشيان المحارم بلا رقيب ولا حسيب ولا رادع ولا خوف من الله عز وجل قال عز وجل: -(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ*الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)- [الشعراء/151-152] وقال عز وجل: -(وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)- [يونس/12].
وعلى من أسرفوا على أنفسهم في معصية الله أن يخشوا عقابه ويخافوا سخطه ونقمته وبطشه ويتوبوا إليه ويستغفروه ويلذوا بطاعته قبل فوات الأوان.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .