الشر و الخير هذا الكلام لابن القيم رحمه الله:
تأملت الأرض و من عليها بعين فكري ، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها .
ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره ،
و وجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار .
ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق ،
و أعرضت بهم عن العلم الدال عليه .
فالسلطان مشغول بالأمر و النهي و اللذات العارضة له ، و مياه أغراضه جارية لا شكر لها .
و لا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس .
و إنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها .
كما قال عمر بن المهاجر : قال لي عمر بن عبد العزيز :
[ إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي و هزني ، و قل : مالك يا عمر ؟ ] .
و قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
[ رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا ] .
فأحوج الخلق إلى النصائح و المواعظ ، السلطان .
و أما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى ، و زينة الدنيا ،
و قد انضاف إلى ذلك الجهل ، و عدم العلم ، فلا يؤلمهم ذنب ،
و لا ينزعجون من لبس حرير ، أو شرب خمر ،
حتى ربما قال بعضهم : [ إيش يعمل الجندي ، أيلبس القطن ؟ ] .
ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها ، فالظلم معهم كالطبع .
و أرباب البوادي قد غمرهم الجهل ، و كذلك أهل القرى .
ما أكثر تقلبهم في الأنجاس و تهوينهم لأمر الصلوات ، و ربما صلت المرأة منهن قاعدة .
ثم نظرت في التجار ، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص ،
حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت ،
و صار الربا في معاملتهم فاشياً ، فلا يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا ؟
و هم في باب الزكاة مفرطون ، و لا يستوحشون من تركها ، إلا من عصم الله .
ثم نظرت في أرباب المعاش ، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً ،
و التطفيف و البخس ، و هم مع هذا مغمورون بالجهل .
و رأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال
طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه و ما يتأدب به .
ثم نظرت في أحوال النساء ، فرأيتهن قليلات الدين ، عظيمات الجهل ،
ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله .
فقلت : واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل و معرفته ؟
فنظرت فإذا العلماء ، و المتعلمون ، و العباد ، و المتزهدون .
فتأملت العباد ، و المتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم ،
و يأنس إلى تعظيمه ، و تقبيل يده و كثرة أتباعه ،
حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه
.
ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضاً ،
و لا يشهدوا جنازة ، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم .
و لا يتزاورون ، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء ،
فقد صارت النواميس كلأوثان يعبدونها و لا يعلمون .
و فيهم من يقدم على الفتوى و هو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر
ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا
و لا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه ، إلا تناول المباحات .
ثم تأملت العلماء المتعلمين ،
فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة ،
لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به . و جمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب ،
إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد ، أو قدر ما يتميز به عن عن أبناء جنسه لم يكتفي .
ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى و يستخدمه ،
فهو يؤثر ما يصده العلم عنه ، و يقبل على ما ينهاه ، و لا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه ،
و إنما همته أن يحدث و حسب .
إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة ، جامع بين العلم و العمل .
عارف بحقوق الله تعالى ، خائف منه . فذلك قطب الدنيا ،
و متى مات أخلف الله عوضه .
و ربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة .
و مثل هذا لا تخلو الأرض منه ، فهو بمقام النبي في الأمة .
و هذا الذي أصفه يكون قائماً بالأصول ، حافظاً للحدود ، و ربما قل علمه أو قلت معاملته .
فأما الكاملون في جميع الأدوات فيندر وجودهم ،
فيكون في الزمان البعيد منهم واحد .
و لقد سبرت السلف كلهم فأردت أن أستخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين ،
و بين العمل حتى صار قدوة للعابدين ، فلم أر أكثر من ثلاثة :
أولهم الحسن البصري ، و ثانيهم سفيان الثوري ، و ثالثهم أحمد بن حنبل .
و قد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتاباً ، و ما أنكر على من ربعهم بسعيد بن المسيب .
و إن كان في السلف سادات إلا أن أكثرهم غلب عليه فن ، فنقص من الآخر ،
فمنهم من غلب عليه العلم ، و منهم من غلب عليه العمل ،
و كل هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم ، و النصيب الأوفى من المعاملة و المعرفة .
و لا يأس من و جود من يحذو حذوهم ، و إن كان الفضل بالسبق لهم .
فقد أطلع الله عز وجل الخضر على ما خفى من موسى عليهما السلام .
فخزائن الله مملوءة ، و عطاؤه لا يقتصر على شخص .
إن الليالي و الأيام حاملة و ليس يعلم غير الله ما